تفسير ابن كثر - سورة البقرة - الآية 107

خيارات حفظ الصفحة والطباعة

حفظ الصفحة بصيغة ووردحفظ الصفحة بصيغة النوت باد أو بملف نصيحفظ الصفحة بصيغة htmlطباعة الصفحة
Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۗ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107) (البقرة) mp3
يُرْشِد عِبَاده تَعَالَى بِهَذَا إِلَى أَنَّهُ الْمُتَصَرِّف فِي خَلْقه بِمَا يَشَاء فَلَهُ الْخَلْق وَالْأَمْر وَهُوَ الْمُتَصَرِّف فَكَمَا خَلَقَهُمْ كَمَا يَشَاء وَيُسْعِد مَنْ يَشَاء وَيُشْقِي مَنْ يَشَاء وَيُصِحّ مَنْ يَشَاء وَيُمْرِض مَنْ يَشَاء وَيُوَفِّق مَنْ يَشَاء وَيَخْذُل مَنْ يَشَاء كَذَلِكَ يَحْكُم فِي عِبَاده بِمَا يَشَاء فَيُحِلّ مَا يَشَاء وَيُحَرِّمُ مَا يَشَاء . وَيُبِيحُ مَا يَشَاء وَيَحْظُرُ مَا يَشَاء وَهُوَ الَّذِي يَحْكُم مَا يُرِيد لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَلَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ وَيَخْتَبِر عِبَاده وَطَاعَتهمْ لِرُسُلِهِ بِالنَّسْخِ فَيَأْمُر بِالشَّيْءِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْمَصْلَحَة الَّتِي يَعْلَمهَا تَعَالَى ثُمَّ يَنْهَى عَنْهُ لِمَا يَعْلَمهُ تَعَالَى فَالطَّاعَة كُلّ الطَّاعَة فِي اِمْتِثَال أَمْره وَاتِّبَاع رُسُله فِي تَصْدِيق مَا أَخْبَرُوا وَامْتِثَال مَا أَمَرُوا وَتَرْك مَا عَنْهُ زَجَرُوا وَفِي هَذَا الْمَقَام رَدٌّ عَظِيمٌ وَبَيَانٌ بَلِيغٌ لِكُفْرِ الْيَهُود وَتَزْيِيف شُبْهَتهمْ لَعَنَهُمْ اللَّه فِي دَعْوَى اِسْتِحَالَة النَّسْخ إِمَّا عَقْلًا كَمَا زَعَمَهُ بَعْضهمْ جَهْلًا وَكُفْرًا وَإِمَّا نَقْلًا كَمَا تَخَرَّصَهُ آخَرُونَ مِنْهُمْ اِفْتِرَاء وَإِفْكًا قَالَ الْإِمَام أَبُو جَعْفَر بْن جَرِير رَحِمَهُ اللَّه : فَتَأْوِيلُ الْآيَة أَلَمْ تَعْلَم يَا مُحَمَّد أَنَّ لِي مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَسُلْطَانهمَا دُون غَيْرِي أَحْكُم فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاء وَآمُر فِيهِمَا وَفِيمَا فِيهِمَا بِمَا أَشَاء وَأَنْهَى عَمَّا أَشَاء وَأَنْسَخ وَأُبَدِّل وَأُغَيِّر مِنْ أَحْكَامِي الَّتِي أَحْكُم بِهَا فِي عِبَادِي بِمَا أَشَاء إِذْ أَشَاء ثُمَّ قَالَ : وَهَذَا الْخَبَر وَإِنْ كَانَ خِطَابًا مِنْ اللَّه تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى وَجْه الْخَبَر عَنْ عَظَمَته فَإِنَّهُ مِنْهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيب لِلْيَهُودِ الَّذِينَ أَنْكَرُوا نَسْخ أَحْكَام التَّوْرَاة وَجَحَدُوا نُبُوَّة عِيسَى وَمُحَمَّد عَلَيْهِمَا الصَّلَاة وَالسَّلَام لِمَجِيئِهِمَا بِمَا جَاءَا بِهِ مِنْ عِنْد اللَّه بِتَغَيُّرِ مَا غَيَّرَ اللَّهُ مِنْ حُكْم التَّوْرَاة فَأَخْبَرَهُمْ اللَّهُ أَنَّ لَهُ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض وَسُلْطَانهمَا وَأَنَّ الْخَلْق أَهْل مَمْلَكَته وَطَاعَته وَعَلَيْهِمْ السَّمْع وَالطَّاعَة لِأَمْرِهِ وَنَهْيه وَأَنَّ لَهُ أَمْرهمْ بِمَا يَشَاء وَنَهْيهمْ عَمَّا يَشَاء وَنَسْخ مَا يَشَاء وَإِقْرَار مَا يَشَاء وَإِنْشَاء مَا يَشَاء مِنْ إِقْرَاره وَأَمْره وَنَهْيه " قُلْت " الَّذِي يَحْمِل الْيَهُود عَلَى الْبَحْث فِي مَسْأَلَة النَّسْخ إِنَّمَا هُوَ الْكُفْر وَالْعِنَاد فَإِنَّهُ لَيْسَ فِي الْعَقْل مَا يَدُلّ عَلَى اِمْتِنَاع النَّسْخ فِي أَحْكَام اللَّه تَعَالَى لِأَنَّهُ يَحْكُم مَا يَشَاء كَمَا أَنَّهُ يَفْعَل مَا يُرِيد مَعَ أَنَّهُ قَدْ وَقَعَ ذَلِكَ فِي كُتُبه الْمُتَقَدِّمَة وَشَرَائِعه الْمَاضِيَة كَمَا أَحَلَّ لِآدَم تَزْوِيج بَنَاته مِنْ بَنِيهِ ثُمَّ حَرَّمَ ذَلِكَ وَكَمَا أَبَاحَ لِنُوحٍ بَعْد خُرُوجه مِنْ السَّفِينَة أَكْل جَمِيع الْحَيَوَانَات ثُمَّ نَسَخَ حِلّ بَعْضهَا وَكَانَ نِكَاح الْأُخْتَيْنِ مُبَاح لِإِسْرَائِيل وَبَنِيهِ وَقَدْ حَرَّمَ ذَلِكَ فِي شَرِيعَة التَّوْرَاة وَمَا بَعْدهَا وَأَمَرَ إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلَام بِذَبْحِ وَلَده ثُمَّ نَسَخَهُ قَبْل الْفِعْل وَأَمَرَ جُمْهُور بَنِي إِسْرَائِيل بِقَتْلِ مَنْ عَبَدَ الْعِجْل مِنْهُمْ ثُمَّ رَفَعَ عَنْهُمْ الْقَتْل كَيْلَا يَسْتَأْصِلهُمْ الْقَتْلُ وَأَشْيَاءُ كَثِيرَةٌ يَطُولُ ذِكْرُهَا وَهُمْ يَعْتَرِفُونَ بِذَلِكَ وَيَصْدِفُونَ عَنْهُ وَمَا يُجَاب بِهِ عَنْ هَذِهِ الْأَدِلَّة بِأَجْوِبَةٍ لَفْظِيَّة فَلَا يَصْرِف الدَّلَالَة فِي الْمَعْنَى إِذْ هُوَ الْمَقْصُود وَكَمَا فِي كُتُبهمْ مَشْهُورًا مِنْ الْبِشَارَة بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْأَمْر بِاتِّبَاعِهِ فَإِنَّهُ يُفِيد وُجُوب مُتَابَعَته عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام وَأَنَّهُ لَا يَقْبَل عَمَل إِلَّا عَلَى شَرِيعَته وَسَوَاء قِيلَ إِنَّ الشَّرَائِع الْمُتَقَدِّمَة مُغَيَّاة إِلَى بِعْثَته عَلَيْهِ السَّلَام فَلَا يُسَمَّى ذَلِكَ نَسْخًا لِقَوْلِهِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَام إِلَى اللَّيْل وَقِيلَ إِنَّهَا مُطْلَقَة وَإِنَّ شَرِيعَة مُحَمَّد صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَسَخَتْهَا فَعَلَى كُلّ تَقْدِير فَوُجُوب مُتَابَعَته مُتَعَيِّن لِأَنَّهُ جَاءَ بِكِتَابِ هُوَ آخِر الْكُتُب عَهْدًا بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فَفِي هَذَا الْمَقَام بَيَّنَ تَعَالَى جَوَاز النَّسْخ رَدًّا عَلَى الْيَهُود عَلَيْهِمْ لَعْنَة اللَّه حَيْثُ قَالَ تَعَالَى" أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلّ شَيْء قَدِير أَلَمْ تَعْلَم أَنَّ اللَّه لَهُ مُلْك السَّمَوَات وَالْأَرْض " الْآيَة فَكَمَا أَنَّ لَهُ الْمُلْك بِلَا مُنَازِع فَكَذَلِكَ لَهُ الْحُكْم بِمَا يَشَاء أَلَا لَهُ الْخَلْق وَالْأَمْر وَقُرِئَ فِي سُورَة آل عِمْرَان الَّتِي نَزَلَ صَدْرهَا خِطَاب مَعَ أَهْل الْكِتَاب وُقُوع النَّسْخ فِي وَقَوْله تَعَالَى " كُلّ الطَّعَام كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيل إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيل عَلَى نَفْسه " الْآيَة كَمَا سَيَأْتِي تَفْسِيره وَالْمُسْلِمُونَ كُلّهمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى جَوَاز النَّسْخ فِي أَحْكَام اللَّه تَعَالَى لِمَا لَهُ فِي ذَلِكَ مِنْ الْحِكْمَة الْبَالِغَة وَكُلّهمْ قَالَ بِوُقُوعِهِ وَقَالَ أَبُو مُسْلِم الْأَصْبَهَانِيّ الْمُفَسِّر : لَمْ يَقَع شَيْء مِنْ ذَلِكَ فِي الْقُرْآن وَقَوْله ضَعِيف مَرْدُود مَرْذُول وَقَدْ تَعَسَّفَ فِي الْأَجْوِبَة عَمَّا وَقَعَ مِنْ النَّسْخ فَمَنْ ذَلِكَ قَضِيَّة الْعِدَّة بِأَرْبَعَةِ أَشْهُر وَعَشْرًا بَعْد الْحَوْل لَمْ يُجِبْ عَلَى ذَلِكَ بِكَلَامٍ مَقْبُول وَقَضِيَّة تَحْوِيل الْقِبْلَة إِلَى الْكَعْبَة عَنْ بَيْت الْمَقْدِس لَمْ يُجِبْ بِشَيْءٍ وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخ مُصَابَرَة الْمُسْلِم لِعَشَرَةٍ مِنْ الْكَفَرَة إِلَى مُصَابَرَة الِاثْنَيْنِ وَمِنْ ذَلِكَ نَسْخ وُجُوب الصَّدَقَة قَبْل مُنَاجَاة الرَّسُول صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَغَيْر ذَلِكَ وَاَللَّه أَعْلَم .
none
Facebook Twitter Google+ Pinterest Reddit StumbleUpon Linkedin Tumblr Google Bookmarks Email

كتب عشوائيه

  • رفقاء طريق

    رفقاء طريق: قال المصنف - حفظه الله -: «فإن الإسلام دين صفاء ونقاء وأخوة ومودة، يظهر ذلك جليًا في آيات كثيرة من كتاب الله - عز وجل -، وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم -. وقد اخترت للأخ القارئ نماذج من الرفقة الصالحة قولاً وفعلاً لأهميتها في عصرنا الحاضر اقتداء وتأسيًا. وهذا هو الجزء الرابع عشر من سلسلة «أين نحن من هؤلاء؟» تحت عنوان «رفقاء طريق»».

    الناشر: دار القاسم - موقع الكتيبات الإسلامية https://www.ktibat.com

    المصدر: https://www.islamhouse.com/p/208974

    التحميل:

  • حديث: «لا تغضب» دراسة حديثية دعوية نفسية

    حديث: «لا تغضب» دراسة حديثية دعوية نفسية: هذه الدراسة محاولة لتشخيص غريزة الغضب ودراستها دراسة حديثية نبوية؛ لمعالجة من يُصاب بهذا الداء، أو للوقاية منه قبل الإصابة، وكذا محاولة لبيان أثر هذا الغضب في نفسية الإنسان وتدخله في الأمراض العضوية، ومن ثَمَّ استيلاء هذا المرض النفسي على المُصاب به.

    الناشر: شبكة السنة النبوية وعلومها www.alssunnah.com

    المصدر: https://www.islamhouse.com/p/330177

    التحميل:

  • الاستعمار في العصر الحديث ودوافعه الدينية

    الاستعمار في العصر الحديث ودوافعه الدينية : تأتي هذه الدراسة في ثلاثة مباحث، الأول منها أتحدث فيه عن الاستعمار وتاريخه القريب ودوافعه الدينية وما خلفه من مآسي في عالمنا. وأما الثاني منها فخصصته للحديث عن التبشير، واستعرضت اهدافه وبعض المحطات المهمة في تاريخه في العالم الإسلامي. وفي الأخير منها درست العلاقة بين التبشير والاستعمار خلال القرنين الماضيين.

    المصدر: https://www.islamhouse.com/p/228831

    التحميل:

  • الرسالة التدمرية

    الرسالة التدمرية : تحقيق الإثبات للأسماء والصفات وحقيقة الجمع بين القدر والشرع، لشيخ الإسلام ابن تيمية المتوفي سنة (827هـ) - رحمه الله تعالى -، - سبب كتابتها ما ذكره شيخ الإسلام في مقدمتها بقوله: " أما بعد: فقد سألني من تعينت إجابتهم أن أكتب لهم مضمون ما سمعوه مني في بعض المجالس من الكلام في التوحيد والصفات وفي الشرع والقدر. - جعل كلامه في هذه الرسالة مبنياً على أصلين: الأصل الأول: توحيد الصفات، قدم له مقدمة ثم ذكر أصلين شريفين ومثلين مضروبين وخاتمة جامعة اشتملت على سبع قواعد يتبين بها ما قرره في مقدمة هذا الأصل. الأصل الثاني: توحيد العبادة المتضمن للإيمان بالشرع والقدر جميعاً. - والذين سألوا الشيخ أن يكتب لهم مضمون ما سمعوا منه من أهل تدمر - فيما يظهر - وتدمر بلدة من بلدان الشام من أعمال حمص، وهذا وجه نسبة الرسالة إليها.

    الناشر: جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

    المصدر: https://www.islamhouse.com/p/272963

    التحميل:

  • لا تستوحش لهم الغبراء

    لا تستوحش لهم الغبراء: قال المصنف - حفظه الله -: «فإن أمر الورع قد ندر وقلَّ في هذا الزمن.. وها هو قلمي يَنزوي حياء أن يكتب في هذا الموضوع، لما في النفس من تقصير وتفريط ولكن حسبها موعظة تقع في القلب مسلم ينتفع بها.. وهذا هو الجزء «التاسع عشر» من سلسلة «أين نحن من هؤلاء؟» تحت عنوان «لا تستوحش لهم الغبراء» ومدار حديثه وسطوره عن الورع والبعد عن الشُبه».

    الناشر: دار القاسم - موقع الكتيبات الإسلامية https://www.ktibat.com

    المصدر: https://www.islamhouse.com/p/229606

    التحميل:

اختر سوره

اختر اللغة